ما لا تعرفه عن خالد بن الوليد !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا
محمد، من رَغَّبَ بالعَملِ للجنانِ، وحذر من سلوك الطريق الموصل للنيرانِ.
وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين. يقول الله تبارك وتعالى ﴿ مِنَ
المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدوُاْ اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُم مَّنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبدِيلاً
﴾ [سورة الأحزاب آية 23]. من هؤلاء الأبطال الأفذاد الصادقين الموفين
بعهودهم الصابرين الذين أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا
عن المنكر وخافوا من الله حق الخوف وزكوا أنفسهم حتى صارت نفوسًا مطمئنة،
رجل أحب الجهاد في سبيل الله حتى دخل شغاف قلبه، شغفه حبًا، ولكن مات على
فراشه ولم يمت في أرض المعركة، إنه سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه
وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.
حَدَّثَ سيدنا خالد عن مسيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة
إلى المدينة المنورة ليأخذ دوره في قافلة المؤمنين فقال: ووددت لو أجد من
أُصاحِبُ، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الإجابة، وخرجنا
جميعا فأدلجنا سحرًا، فلما كنا بالسهل إذا عمرو بن العاص، فقال مرحبًا
بالقوم، قلنا: وبك، قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضًا أنه يريد
النبي ليسلم، فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان. فلما
طلعت على رسول الله سلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق. فأسلمت
وشهدت شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير ». وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله، فقال: « إنَّ الإسلامَ يَجُبُ مَا قَبْلَهُ ». قُلْتُ: يا رسول الله على ذلك فقال: اللَّهُمَّ اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيلك، قال: وتقدم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت قال: لما كان يوم مؤتة وقتل الأمراء
أخذ اللواء ثابت بن أقرم وجعل يصيح: يا للأنصار، فجعل الناس يثوبون إليه،
فنظر إلى خالد بن الوليد، فقال خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال لا ءاخذه،
أنت أحق به، لك سن وقد شهدت بدرا، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما
أخذته إلا لك، وقال ثابت للناس: اصطلحتم على خالد؟ قالوا: نعم، فحمل اللواء
وحمل بأصحابه ففض جمعًا من جمع المشركين. ولي سيدنا خالد أمره الجيش، بعد
أن كان وضع المعركة أصبح واضحًا فضحايا المسلمين كثيرون، وجيش الروم في
كثرته الساحقة كاسح، جرار، ولكن صاحب القلب الشجاع والبصيرة النافذة، رمق
أرض المعركة الواسعة بعينين كعيني الصقر وأدار الخطة العسكرية في بديهته
بسرعة مذهلة، فقسم جيشه، والقتال دائر، إلى مجموعات، ثم وكل إلى كل مجموعة
مهامها وراح يستعمل فنه العجيب ودهاءه البليغ حتى خرج بجيش المسلمين سليمًا
معافى. وفي هذه الغزوة أنعم الرسول صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد
بهذا اللقب العظيم سيف من سيوف الله.
تنكث قريش عهدها مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيتحرك المسلمون تحت
قيادته لفتح مكة، وعلى الجناح الأيمن من الجيش يجعل الرسول صلى الله عليه
وسلم خالد بن الوليد أميرًا، ويدخل خالد مكة واحدا من قادة الجيش المسلم،
بعد أن شهدته سهولها وجبالها قائدًا من قواد جيش الوثنية والشرك زمنًا
طويلاً، وينتفض تحت روعة المشهد وجلاله، مشهد المستضعفين الذين لا تزال
جسومهم تحمل ءاثار التعذيب والتنكيل، يعودون إلى البلد الذي أخرجوا منه
بغيًا وعدوانًا، يعودون إليه على صهوات جيادهم، وتحت رايات الإسلام
الخفاقة. ويشهد سيدنا خالد هذا الفتح العظيم المبارك وهو بطل من أبطاله.
بعد أن توفي الرسول عليه الصلاة والسلام وحمل أبو بكر رضي الله عنه
مسؤولية الخلافة، هبت أعاصير الردة ونشبت نيران الفتنة في قبائل أسد غطفان
وعبس وطيء وذبيان، ثم في قبائل بني عامر وهوازن وسليم وبني تميم وصارت
جيوشًا جرارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين، وواجه الإسلام محنة خطيرة،
ولكن كان هناك أفضل أولياء أهل الأرض من البشر بعد الأنبياء سيدنا أبو بكر
رضي الله عنه الذي عبأ المسلمين وقادهم إلى حيث كانت قبائل بني عبس وبني
مرة وذبيان قد خرجوا في جيش كبير، وانتصر المسلمون.
ثم إلى معركة ثانية يكون فيها سيدنا خالد بن الوليد أمير لواء، وقد قال له سيدنا أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: « نعم عبد الله، وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله، سله الله على الكافرين والمنافقين
»، ومضى خالد إلى سبيله ينتقل بجيشه من معركة إلى معركة ومن نصر إلى نصر
حتى كانت المعركة الفاصلة « باليمامة » حيث كان بنو حنيفة ومن انحاز إليهم
من القبائل قد جيشوا أخطر جيوش الردة قاطبة يقودها مسيلمة الكذاب، وقد جاء
الأمر من سيدنا أبي بكر الصديق للقائد البطل خالد بن الوليد أن سِرْ إليهم،
وسار سيدنا خالد ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق إليه حتى
أعاد تنظيم جيشه ليكون خصمًا رهيبًا وخطرًا حقيقيًا ضد جيوش الحق.
ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه
وبغيه وبصفوف جيشه الكثير العدد، وسلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه،
والتحم الجيشان ودار قتال وسقط العديد من المسلمين شهداء، ثم أبصر خالد
رجحان كفة الأعداء فاعتلى بجواده ربوة قريبة ونظر إلى سير المعركة وصار
ينادي فيالق جيشه وأجنحته، ثم صاح بصوته: امتازوا لنرى اليوم بلاء كل حي.
فمضى المهاجرون تحت رايتهم والأنصار تحت رايتهم، واشتعلت الأنفس حماسة،
وامتلأت عزمًا، وخالد يرسل بين الحين والحين تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقي
بها أمرا، وفي دقائق معدودة تحول اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون
بالعشرات، وقتل مسيلمة الكذاب وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت
راية الكذاب تحت التراب.
ثم أرسل أبو بكر الصديق توجيهاته إلى خالد بن الوليد أن يمضي بجيشه نحو
العراق. ولقد استهل عمله في العراق بكتب أرسلها إلى جميع ولاة كسرى ونوابه
على ألوية العراق ومدائنه جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم: من خالد بن الوليد … إلى مرازبة
فارس….سلام على من اتبع الهدى… أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمكم، وسلب
ملككم، ووهن كيدكم…فوالذي لا إله غيره لأبعثنَ إليكم قوما يحبون الموت كما
تحبون الحياة.
وجاءت طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزحوف الكثيرة التي يعدها له
قواد الفرس في العراق، فلم يضيع وقته فاستولى بسرعة كبيرة على الأبلة،
والسدير، والنجف، والحيرة، فالأنبار، فالكاظمية، مواكب نصر تتبعها مواكب
ترتفع فيها رايات الإسلام. وسار بجيشه الظافر يصحبه النصر حتى وقف على تخوم
الشام لمحاربة الروم.
وجند الخليفة الصديق لهذه الغاية جيوشًا عديدة واختار لإمارتها نفرا من
القادة المهرة، فأرسل أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي
سفيان.
وأعد الروم للقتال جيشًا قوامه مائتان وأربعون ألفًا. في هذه الأثناء
أرسل سيدنا أبو بكر إلى خالد بن الوليد ليأتي إلى الشام فامتثل سيدنا خالد
وأطاع وترك على العراق « المثنى بن حارثة » وسار مع قواته
التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، ونظم الجيش ونسق مواقعه
في وقت وجيز، ووقف سيدنا خالد خطيبًا فحمد ربه وأثنى عليه وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم.
وقد دار قتال ليس لضراوته نظير كما قيل، وأقبل الروم في فيالق كالجبال،
وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون، وأبدى المسلمون شجاعة تبهر
الألباب، وأقترب أحدهم من أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه والقتال دائر،
وقال له: إني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة من رسول الله حين ألقاه،
فقال له أبو عبيدة: نعم قل له: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا
حقًا، ويندفع الرجل كالسهم المقذوف يضرب بسيفه، ويضرب بالسيوف حتى يرتفع
شهيدا وكان هذا عكرمة ابن أبي جهل. وخرج سيدنا خالد بن الوليد مع مائة من
الأبطال الأفذاذ ينقضون على ميسرة جيش الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد
يصيح في المائة الذين معه: والذي نفسي بيده ما بقي من الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم وإني لأرجو من الله أن يمنحكم أكتافهم.
يروى أن أحد أمراء جيش الروم ويدعى «جرجة بن بوذيها» خرج من الصف
واستدعى « خالد بن الوليد» رضي الله عنه للمبارزة فجاء إليه حتى اختلفت
أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا
يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من
السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فبم سميت سيف
الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم
إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن
الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم: « أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين » ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على الكافرين.
فقال: يا خالد إلى ما تدعون ؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل. قال: فمن لم
يجبكم؟ قال: فالجزية، قال: فإن لم يعطها، قال نؤذنه بالحرب ثم نقاتله. قال:
فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم ؟ قال: منزلتنا واحدة فيما
افترض الله علينا. قال جرجة: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من
الأجر والذخر؟ قال: نعم. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا
قبلنا هذا الأمر وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء
ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن
يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب
والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان له فضل كبير.
فقال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله لقد صدقتك وإن
الله ولي ما سألت عنه، فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد وقال: علمني
الإسلام، فقال له خالد: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول
الله فتشهد جرجة ودخل في دين الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه فصب عليه
قربة من ماء ثم صلى به ركعتين. ثم زحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف
فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب وأصيب
جرجة رحمه الله واستشهد ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله
عنهما.
كان لسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه قلنسوة وضع في طيها شعرًا من
ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مقدم رأسه لما حلق في عمرة
الجعرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة الطائف، فكان يلبسها يتبرك بها في
غزواته. وعنه أنه قال: « اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فسبقت إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة فجعلتها في
مقدمة القلنسوة، فما وجهت في وجه إلا فتح لي ».
دخل عليه أبو الدرداء يزوره بسبب مرضه فقال له سيدنا خالد: « إن خيلي
وسلاحي على ما جعلته عليه في سبيل الله عز وجل. وداري بالمدينة صدقة، قد
كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب، ونعم العون هو على الإسلام، وقد جعلت وصيتي
وإنفاذ عهدي إلى عمر ».
فقدم أبو الدرداء بالوصية على سيدنا عمر فقبلها وترحم عليه، ومات البطل
العظيم خالد بن الوليد سنة إحدى وعشرين، وحكى من غسله أنه ما كان في جسمه
موضع صحيح من بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم.
وقيل لقد قال كلمات عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفًا وما في جسدي شبر
إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعن برمح وها أنا أموت على فراشي حتف
أنفي فلا نامت أعين الجبناء.
رضي الله عن سيدنا خالد بن الوليد ورحمه وأسكنه الفراديس العلى. وصلى
الله وسلم على من رباه وأدبه وعلمه وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
والحمد لله أولا وءاخرًا.
إرسال تعليق Blogger Disqus